فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}.
الحق- تبارك وتعالى- يردُّ على اعتراضهم على بشرية الرسول وطلبهم أن يكون الرسول ملكًا، كما قالوا في موضع آخر: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6].
يعني: هم مثلنا، وليسوا أفضل منَّا، فكيف يهدوننا؟! وهل الرسول يهديكم ببشريته؟ أم بشيء جاءه من أعلى؟ هل منهجه من عنده؟
الرسول ليس مُصلِحًا اجتماعيًا، إنما هو مُبلِّغ عن الله ربي وربكم. وقد سبقت السوابق فيمَنْ قبلكم أن يكون الرسول بشرًّا {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] ولو أرسلنا إليهم مِلَكًَا لجاءكم الرسول مَلَكًا. {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] وهم اليهود والنصارى، ماذا أرسلنا إليهم أرجالًا أم ملائكة؟
ذلك لأن المفروض في النبي أن يكون قدوة لقومه وأُسْوة، مُبلِّغَ منهج، وأُسْوةَ سلوك، منهج يحققه عن الله، ثم يُطبِّقه على نفسه، فهو لا يحمل الناس على أمر هو عنه بنَجْوة، إنما هو أُسْوتهم وقُدْوتهم، وشرط أساسي في القدوة أنْ يتحد فيها الجنس: المتأسِّي مع المتأسِّي به.
فلو رأيت مثلًا في الغابة أسدًا يصول ويجول ويفترس، هل تفكر في يوم ما أن تكون أسدًا؟ هل تأخذ الأسد لك أُسْوة؟! لا، لأنه يُشترط في أُسْوتك أن يكون من جنسك، فإذا رأيتَ فارسًا على جواده يصول ويجول ويضرب في الأعداد يمينًا وشمالًا، لا شكَّ أنك تود أن تكون مثله.
كذلك إذا جاء النبي مَلَكًا، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤْمرون، إنما نحن بشر، ولو جاءنا الرسول ملكًا لجاءنا في صورة بشرية.
يقول تعالى: {وما مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشرًّا رَّسُولًا قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95].
ويردُّ الحق سبحانه عليهم: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. وهكذا تظل الشبهة موجودة.
إذن: لا يمكن أن يكون الرسول للبشر إلا من البشر. ونعم، محمد بشر لَكِن بشر يُوحَى إليه، كما جاء في الحديث الشريف: «يرد عليَّ- يعني من الحق الأعلى- فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم».
وقوله: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] أي: إنْ كنتم في شكٍّ من هذه المقولة فاسألوا أهل الذكر من السابقين: اليهود والنصارى أهل الكتاب.
وقال: {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] لأنها مسألة عِلْمُها مشكوك فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا}.
{جَعَلْنَاهُمْ} [الأنبياء: 8] أي: الرسل {جَسَدًا} [الأنبياء: 8] يعني: شيئًا مصبوبًا جامدًا لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، إنما هم بشر يأكلون ويشربون كأيّ بشر، ويمشون في الأسواق، ويعيشون حياة البشر العادية {وما كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8] فليس الخلود من صفة البشر وقد تابعوا الرسل، وعَلِموا عنهم هذه الحقيقة، وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد}.
وهذه سُنة من سُنَن الله في الرسل أنْ يَصْدقهم وعده، وهل رأيتم رسولًا عانده قومه وحاربوه واضطهدوه، وكانت النهاية أن انتصروا عليه؟
ألم يقل الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171-173].
وكان صِدْق الوعد أن أنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلَكِنا المسرفين والمسرفون هم الذين تجاوزوا الحدَّ المعروف. فنهاية الرسل جميعًا النُّصْرة من الله، والوفاء لهم بما وعدهم. {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا}. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}.
يقال: قرب الشيء واقترب وقد اقترب الحساب، أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه.
قال الزجاج: المعنى: {اقترب لِلنَّاسِ} وقت {حِسَابَهُمْ} أي القيامة كما في قوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1].
واللام في {للناس} متعلقة بالفعل، وتقديمها هي ومجرورها على الفاعل لإدخال الروعة، ومعنى اقتراب وقت الحساب: دنّوه منهم، لأنه في كل ساعة أقرب إليهم من الساعة التي قبلها.
وقيل: لأن كل ما هو آتٍ قريب، وموت كل إنسان قيام ساعته.
والقيامة أيضًا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، والمراد بالناس: العموم.
وقيل: المشركون مطلقًا.
وقيل: كفار مكة، وعلى هذا الوجه قيل: المراد بالحساب: عذابهم يوم بدر، وجملة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} في محل نصب على الحال، أي هم في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة، غير متأهبين بما يجب عليهم من الإيمان بالله.
والقيام بفرائضه، والانزجار عن مناهيه.
{مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ}: من لابتداء الغاية.
وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثًا على أن القرآن محدث، لأن الذكر هنا هو: القرآن.
وأجيب بأنه: لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف، لأنه متجدد في النزول. فالمعنى محدث تنزيله، وإنما النزاع في الكلام النفسي.
وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه، قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده.
والقصة أشهر من أن تذكر، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي.
ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع، ولَكِنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه، والتمسك بأذيال الوقف، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله، والأمر لله سبحانه.
وقوله: {إِلاَّ استمعوه} استثناء مفرغ في محل نصب على الحال.
وجملة: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في محل نصب على الحال أيضًا، من فاعل استمعوه، و{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حال أيضًا والمعنى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في الاستماع مع اللعب والاستهزاء ولهوة القلوب، وقرىء: {لاهية} بالرفع كما قرىء: {محدث} بالرفع {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} النجوى: اسم من التناجي، والتناجي لا يكون إلا سرًّا، فمعنى إسرار النجوى: المبالغة في الإخفاء.
وقد اختلف في محل الموصول على أقوال، فقيل: إنه في محل رفع بدل من الواو في {أسرّوا}، قاله المبرد وغيره.
وقيل: هو في محل رفع على الذمّ.
وقيل: هو فاعل لفعل محذوف، والتقدير: يقول الذين ظلموا، واختار هذا النحاس، وقيل: في محل نصب بتقدير أعني.
وقيل: في محل خفض على أنه بدل من الناس ذكر ذلك المبرد.
وقيل: هو في محل رفع على أنه فاعل {أسرّوا} على لغة من يجوّز الجمع بين فاعلين، كقولهم: أكلوني البراغيث، ذكر ذلك الأخفش، ومثله {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ} [المائدة: 71] ومنه قول الشاعر:
فاهتدين البغال للأغراض

وقول الآخر:
ولَكِن دنا بي أبوه وأمه ** بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، أي والذين ظلموا أسرّوا النجوى.
قال أبو عبيدة: أسرّوا هنا من الأضداد، يحتمل أن يكون بمعنى: أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكون بمعنى: أظهروه وأعلنوه {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} هذه الجملة بتقدير القول قبلها، أي قالوا: هل هذا الرسول إلا بشر مثلكم لا يتميز عنكم بشيء؟ ويجوز أن تكون هذه الجملة بدلًا من النجوى، وهل بمعنى النفي أي: وأسرّوا هذا الحديث، والهمزة في {أَفَتَأْتُونَ السحر} للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، وجملة: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل نصب على الحال، والمعنى: إذا كان بشرًّا مثلكم، وكان الذي جاء به سحرًا، فكيف تجيبونه إليه وتتبعونه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما تناجوا به، وأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال: {قُل رَّبّي يَعْلَمُ القول في السماء والأرض} أي لا يخفى عليه شيء مما يقال فيهما، وفي مصاحف أهل الكوفة: {قال ربي} أي قال محمد: ربي يعلم القول، فهو عالم بما تناجيتم به.
قيل: القراءة الأولى أولى، لأنهم أسرّوا هذا القول، فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمره أن يقول لهم هذا.
قال النحاس: والقراءتان صحيحتان، وهما بمنزلة آيتين {وَهُوَ السميع} لكل ما يسمع {العليم} بكل معلوم، فيدخل في ذلك ما أسرّوا دخولًا أوليًا.
{بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} قال الزجاج: أي قالوا: الذي تأتي به أضغاث أحلام.
قال القتيبي: أضغاث الأحلام الرؤيا الكاذبة.
وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل، وهذا إضراب من جهة الله سبحانه حكاية لما وقع منهم، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية هذا القول.
ثم حكى سبحانه إضرابهم عن قولهم: أضغاث أحلام، قال: {بَلِ افتراه} أي بل قالوا: افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل.
ثم حكى سبحانه عنهم أنهم أضربوا عن هذا وقالوا: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وما أتى به من جنس الشعر، وفي هذا الاضطراب منهم، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه؟ أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولَكِن أرادوا أن يدفعوه بالصدر ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان.
ثم بعد هذا كله، قالوا: {فليأتنا بآية} وهذا جواب شرط محذوف أي: إن لم يكن كما قلنا: فليأتنا بآية {كَمَا أُرْسِلَ الأولون} أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها، وصالح بالناقة، ومحل الكاف الجرّ صفة لآية، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، وكان سؤالهم هذا سؤال تعنت، لأن الله سبحانه قد أعطاهم من الآيات ما يكفي، ولو علم الله سبحانه أنهم يؤمنون إذا أعطاهم ما يقترحوه لأعطاهم ذلك، كما قال: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] قال الزجاج: اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال، فقال الله مجيبًا لهم: {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ} أي قبل مشركي مكة، ومعنى {من قرية}: من أهل قرية، ووصف القرية بقوله: {أهلَكِناها} أي أهلَكِنا أهلها، أو أهلَكِناها بإهلاك أهلها.
وفيه بيان أن سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة، ومن في {من قرية} مزيدة للتأكيد، والمعنى: ما آمنت قرية من القرى التي أهلَكِناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء، فكيف نعطيهم ما يقترحون، وهم أسوة من قبلهم، والهمزة في {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} للتقريع والتوبيخ، والمعنى: إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا.
ثم أجاب سبحانه عن قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله: {وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمُ} أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالًا من البشر، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ في الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95].
وجملة {نوحي إليهم} مستأنفة لبيان كيفية الإرسال، ويجوز أن تكون صفة لـ: {رجالًا} أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم.
قرأ حفص وحمزة والكسائي: {نوحي} بالنون، وقرأ الباقون بالياء: {يوحي}.
ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} وأهل الذكر: هم أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ومعنى {إن كنتم لا تعلمون}: إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر، كذا قال أكثر المفسرين.
وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه، وتقدير الكلام: إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر.
وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنّة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته.
وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة: سميناها القول المفيد في حكم التقليد.
ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال: {وما جعلناهم جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون، والجسد جسم الإنسان.
قال الزجاج: هو واحد، يعني الجسد ينبىء عن جماعة، أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة: {لا يأكلون الطعام} صفة لـ: {جسدًا} أي وما جعلناهم جسدًا مستغنيًا عن الأكل، بل هو محتاج إلى ذلك {وما كَانُواْ خالدين} بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون، فأجاب الله عليهم بهذا.
وجملة: {ثُمَّ صدقناهم الوعد} معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق، والتقدير: أوحينا إليهم ما أوحينا.
{ثم صدقناهم الوعد} أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، ولهذا قال سبحانه: {فأنجيناهم وَمَن نشاء} من عبادنا المؤمنين، والمراد: إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي، والمراد بـ: {المسرفين}: المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي، وهم المشركون.
وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} قال: في الدنيا وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال: من أمر الدنيا وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} كل هذا قد كان منه {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ أهلَكِناها} أي أن الرسل كانوا إذا جاؤوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ما تقوله حقًّا ويسرّك أن نؤمن فحوّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولَكِنه إن كان، ثم لم يؤمنوا لم يُنْظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال:بل أستأني بقومي، فأنزل الله: {مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ} الآية».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وما جعلناهم جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} يقول: لم نجعلهم جسدًا ليس يأكلون الطعام، إنما جعلناهم جسدًا يأكلون الطعام. اهـ.